الثقافة والثورة في مصر- صراع الثروة والسلطة من الجبرتي إلى 2011

الثقافة ليست مجرد نصوص مكتوبة، أو محفوظات تاريخية، أو حكايات متوارثة، أو رسومات فنية، أو معزوفات موسيقية، أو منظومات شعرية، أو مقالات نثرية، أو روايات محكية. بل هي رؤية أكثر شمولية وعمقًا، إنها تصور كامل للمجتمع بكل جوانبه الاقتصادية والسياسية، ولأساليب الحكم والإدارة، ولروح الشعب وضميره الحي، ولمزاجه المتفرد، وهويته الراسخة، وطبعه المتأصل، وشغفه الجارف بالحياة، وإقباله المفعم بالأمل، واندفاعه القوي في مجرى الأحداث، وتحمله وصبره على ما يواجهه من صعاب وتحديات، وتقبله لما يجده من سهولة ويسر.
بهذا التصور الواسع، تكون الثقافة هي قضية المجتمع بأكمله، شأن يخص كل فرد يعيش في كنف هذا المجتمع، ويشترك مع الآخرين في زمان واحد. إنها ليست حكرًا على طبقة معينة تحمل ألقاب المثقفين وشاراتهم، بل هي مسؤولية جماعية، يشارك فيها الجميع على قدم المساواة. الثقافة هي بناء متكامل، يضم الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والروحية والسياسية، وهي تعلو على الأفراد وتطوي طموحاتهم مهما بلغت مكانتهم، ومهما تباعدت مواقعهم. باختصار، ثقافة الأمة هي نتاج جهود أبنائها جميعًا، وهم فيها شركاء متضامنون، جيلًا بعد جيل، وتتطور الثقافة تدريجيًا كلما سادت رؤية جديدة أكثر نضجًا وحداثة، لتحل محل رؤية قديمة كانت سائدة في الماضي.
قوة المال والسلطة
الثورة لا تقتصر على الانتفاضات العارمة، أو الهبات الشعبية المفاجئة، أو لحظات الغضب العام التي تشتعل ثم تخمد، سواء بالنصر أو بالهزيمة. الثورة هي سعي فطري دؤوب ومستمر من الأفراد والمجموعات لتحسين ظروف حياتهم ومعيشتهم، وأمور المعاش تعتمد بشكل أساسي على نصيب الفرد من القوتين المؤثرتين: قوة المال والثروة، وقوة السلطة والنفوذ. سواء أدرك الناس ذلك أم لم يدركوا، فهم يسعون بالفطرة إلى تحقيق الثروة والوصول إلى القوة، وبنفس القدر يهربون وينفرون من الفقر والضعف.
لقد أصاب ابن خلدون - في الصفحة 150 من مقدمته الشهيرة - عندما قال: "إن الإنسان رئيس بطبعه، بمقتضى الاستخلاف الذي خُلق له، والرئيس إذا غُلب على رئاسته، وكُبح عن غاية عزه، تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده". ويقول أيضًا: "والاعتمار إنما هو عن جدة الأمل، وما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية".
الثورة بهذا المعنى هي حركة بنائية شاملة، تستوعب المجتمع بكل فئاته وشرائحه، مثلما يستوعب المجتمع الأفراد بطموحاتهم المتنوعة، وتناقضاتهم المتأصلة، ومطامعهم اللامحدودة، وصراعاتهم الدائمة، وقوة تدافعهم، وبأس مقاومتهم الفطرية - أو الحيوانية - نحو تحقيق الهدفين الأكبرين: هدف جمع المال والثروة، وهدف الوصول إلى السلطة والقوة.
الثورة بهذا المفهوم هي صراع مستمر لا يتوقف على مدار الساعة، ومن خلال هذا الصراع تتغير توزيعات الثروة والسلطة. فكم من طبقات فقدت سيطرتها وسلطتها، وكم من طبقات أخرى كانت محرومة وبعيدة، ولكنها تمكنت من الوصول إلى السلطة والثروة. والدائرة تدور باستمرار، تمامًا كما تدور عقارب الساعة في ظلام الليل أو في وضح النهار.
الثقافة والثورة، الرؤية والتغيير، هي صراع دائم بين الجميع على مصادر الثروة ومنابع السلطة. إنها طبيعة الإنسان، وسلوكه الأزلي، وهي وجهة حركته ومساعيه، سواء كانت مدفوعة بغريزة حيوانية، أو بعقلانية واعية. ومن ثم، فهي تشكل مجمل تاريخه، وتفاصيله الدقيقة في آن واحد.
أما الإنسان المغلوب على أمره، والمستسلم لقدره من الهزيمة، والخاضع لإرادة من قهروه وقمعوه، فيصفه ابن خلدون بأنه: "صار بالاستعباد آلة لسواه وعالةً على غيره، يتناقص عمرانه، وتتلاشى مكاسبه ومساعيه. ويعجز عن المدافعة عن نفسه، بما كسر التغلب عليه من شوكته، فيصبح مغلوبًا لكل غالب، كما يصبح طُعمةً لكل آكل". ثم يضيف: "إذا غُلب الإنسانُ على أمره، وصار آلةً في يد غيره، لم يكن بقاؤه إلا قليلًا، ثم اندثر - أي انقرض - كأن لم يكن".
نظام الالتزام
لهذه الرؤية الثاقبة، فإن ابن خلدون (1332 - 1406 م)، على الرغم من مرور أكثر من ستة قرون على وفاته، كان وما زال جزءًا أصيلًا من الثقافة العالمية المعاصرة. وقد أدرك هذه الحقيقة مؤسس الثقافة المصرية المعاصرة، عبدالرحمن الجبرتي (1753 - 1825 م)، عندما وصف مقدمة ابن خلدون قائلًا: "من اطلع عليها، رأى بحرًا متلاطمًا بالعلوم، مشحونًا بنفائس جواهر المنطوق والمفهوم".
ومثلما ربط برنجتون مور (1913 - 2005 م) أصول المجتمع الرأسمالي الغربي بالقرن الرابع عشر الميلادي في كتابه "الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية"، فكذلك الأمر، يلزم الاستنارة في قراءة المجتمع المصري المعاصر بإلقاء الضوء على تجربته التاريخية التي أنتجته وجعلته على ما هو عليه.
إن جذور الحداثة في المجتمع المصري تسبق حداثة محمد علي باشا، أي تسبق الحداثة التي جاءت مع الاستعمار الأوروبي. حداثة المصريين بدأت من الداخل، من تطورات داخلية، ومن سعيهم لتحقيق الهدفين الكبيرين: الثروة ثم السلطة، ومن الضعف التدريجي للسلطتين الحاكمتين: ضعف السلطة العثمانية ذات السيادة العليا منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر، ويُشار لذلك بعام 1658 م، وهو تاريخ العمل بنظام الالتزام، الذي كان جوهر صراع الثروة والسلطة في مصر.
في السابق، كانت السلطة العثمانية تتمتع بالقوة الكافية لامتلاك بيروقراطية قادرة على جباية الضرائب في بلد اقتصاده زراعي. لكن هذه البيروقراطية فسدت وترهلت مع الضعف التدريجي في مركز الحكم في إسطنبول، فتم ابتكار نظام الالتزام، حيث تقام مزايدات على ضرائب عدة قرى، ومن يرسو عليه المزاد يدفع مسبقًا المقررات المالية المستحقة على هذه القرى، ثم يحصلها من المستأجرين، ويحتفظ بالفارق بين ما دفعه وما حصله.
ثم استجد نظام "الوسية"، حيث يكون للملتزم مقدار العُشر أو نصف العُشر من أراضي الزمام، ويكون مُعفًى من الضرائب، ويستخدم فلاحي الزمام في زراعته بالسخرة، أي بدون مقابل.
هذا النظام – بمرور الزمن – أتاح للمصريين، الذين هم ليسوا من مزدوجي الحكم - أي ليسوا من الأتراك ولا من المماليك - فرصة المنافسة على الفوز بمزايدات الالتزام، وكان هذا أوسع طريق جرت فيه مياه الحراك الاجتماعي للمصريين ومساعيهم للثروة والسلطة.
ومثلما كانت جذور الحداثة الأوروبية تعود إلى نشأة المدن، وتشكّل الطبقة التجارية والصناعية والحِرفية والمهنية، التي أفرادها ليسوا من الإقطاعيين النبلاء مالكي الأراضي، وليسوا من الفلاحين الأقنان وزارعيها، إنما هم طبقة جديدة ثالثة شقت طريقها بصعوبة من قلب العصور الوسطى إلى اليوم، وهي من قادت تحولات أوروبا والغرب، ثم هي من قادت أوروبا والغرب لاستعمار العالم.
كذلك، كان الأمر في مصر، فمنذ نهايات القرن السابع عشر، وعلى امتداد القرن الثامن عشر، كانت طبقة حضرية مصرية جديدة تتشكل، طبقة ثالثة، لا هي من الأتراك، ولا هي من المماليك، لكنها استفادت من ضعف السلطة العثمانية، ثم استفادت من انقسامات وصراعات نخب الحكم المحلي من عصائب المماليك، حيث عاش المصريون نصف القرن السابع عشر، ومجمل القرن الثامن عشر دون سلطة مركزية قوية قابضة كاتمة على أنفاسهم.
طرق مشرعة للثروة
في هذا المناخ السياسي، وفي ظل غياب القبضة المحكمة للحكم المركزي، وجد المصريون طرقًا ممهدة للوصول إلى الثروة والسلطة، سواء عبر التنافس على أراضي الالتزام أو الاستئثار بتجارة البحر الأحمر، حيث معبر صادرات آسيا إلى أوروبا، وصادرات أوروبا إلى آسيا. وبذلك، تكونت طبقة مصرية حضرية غنية، مسموعة الكلمة، ومحسوب لها حساب – وهذا هو الجذر الحقيقي لمعنى الثقافة والثورة – أن تكون لك رؤية واضحة للواقع، ثم يكون لك سعي دؤوب لتحقيق نصيبك من الثروة والسلطة.
هذه الطبقة، سواء في القاهرة أو في مدن الأقاليم أو في الريف، كانت في مجملها تتكون من العلماء والتجار. والعلماء لم يكونوا يستمدون قوتهم فقط من الفقه وعلم الدين وجلال الشريعة وهيبة الجامع الأزهر الشريف، ولكن بالدرجة الأولى كانوا يستمدون هيبتهم من مركزهم الاجتماعي والاقتصادي كقوة مستقلة في معاشها، لا تتقاضى رواتبها من السلاطين، ولا تحصل على قوت يومها من المماليك.
لم يكن علماء القرن الثامن عشر يعيشون في بؤس وفقر وتعاسة مثقفي الدولة الحديثة، الذين يتأرجحون بين العمل تحت جناح الحكام في مقابل الأمن والعيش الرغيد، أو مواجهة الفقر والجوع والبطش والقهر. بل كان علماء القرن الثامن عشر، إلى جانب مراكزهم الفقهية ومناصبهم العلمية ومكانتهم الدينية، ملتزمين ومستثمرين وأصحاب عَقَارات واسعة وأملاك مُدرة للأرباح. أي أنهم كانوا يمثلون بذور طبقة رأسمالية واعدة.
ووفقًا للدكتور عبدالعظيم رمضان (1925 - 2007 م) في كتابه "الغزوة الاستعمارية للعالم العربي وحركات المقاومة"، يقول في الصفحة 46: "أما العلماء، فقد دخلوا نظام الالتزام منذ تطبيقه، وزاد عدد الملتزمين منهم بصورة كبيرة، حتى بلغوا قبيل الحملة الفرنسية 307 فقهاء أزهريين ملتزمين. وكان عدد الملتزمين من التجار المصريين قبيل الحملة الفرنسية 57 تاجرًا مصريًا ملتزمًا". ويذكر أن شيخ الجامع الأزهر الشريف، الشيخ عبدالله الشرقاوي (1737 - 1812 م)، كان ملتزمًا، وكذلك كان المؤرخ الشيخ عبدالرحمن الجبرتي ملتزمًا.
هذه الطبقة الحضرية - ذات الطابع المالي والتجاري، والطامحة إلى لعب دور سياسي في مناخ ترهلت فيه سلطة الدولة ذات السيادة، وانقسمت فيه نخب المماليك ذات السلطة الفعلية - كانت وما زالت تعيد تعريف الثقافة، كما تعيد تعريف الثورة. الثقافة كبحث دائم عن العدل والحرية والمساواة وحفظ الحقوق والواجبات، والثورة كحائط دفاع صلب عن حقوق المصريين في ثروات بلادهم ومقاليد الأمر والنهي فيها.
لحظة تاريخية استثنائية
منذ أن تبلورت بذور هذه الطبقة، وهي تشهد مراحل صعود عندما تضعف السلطة المركزية، ثم تتراجع عندما تشتد قبضة السلطة وتستحوذ على الثروة والحكم معًا. وما زالت هذه المعادلة تحكم تطورها، فقد ازدهرت في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، ثم ضعفت في حكم محمد علي باشا، ولم تستعد أنفاسها إلا مع بداية تفكيك مشروعه وتخلخل قبضته على اقتصاد البلاد.
ثم ازدهرت في ظل ضعف الخديوية، ثم استفادت من تقريب الإنجليز لها من باب النكاية في ذوي الأصول التركية والشركسية، مثلما كانت قد استفادت من تقريب نابليون بونابرت لها من باب النكاية في المماليك. وقد تنفست الصعداء في عقد التسعينيات من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، ثم انقطعت أنفاسها وتوقفت سبل تطورها في السنوات العشر الأخيرة (2013 - 2023 م).
في لحظة استثنائية من التاريخ، بدت هذه الطبقة كما لو كانت على موعد مع القدر، فاحتشدت في الميادين في يناير وفبراير 2011 م، لتعيد تعريف الثقافة والثورة في أربع كلمات جامعة: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية.
هذه التعريفات الأربعة عرفها المصريون المحدثون أول مرة في صيف عام 1795 م، أي بعد الثورة الفرنسية بسبع سنوات، وقبل الغزو الفرنسي لمصر بثلاث سنوات.
في الصفحة 387 من الجزء الثاني من تاريخ الجبرتي "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، وفي تأريخه للعام 1209 الهجري الموافق 1795 الميلادي، يقول عن هذه السنة: "لم يقع فيها شيء من الحوادث سوى جور الأمراء، وتتابع مظالمهم، واتخذ مراد بك (1750 - 1801 م) الجيزة سكنًا، وزاد في عمارته، واستولى على غالب بلاد الجيزة، بعضها حصل عليه بالثمن القليل، وبعضها حصل عليه غصبًا، وبعضها حصل عليه معاوضةً".
ثم بعد أن يتحدث عن ثورة المصريين في ذاك العام 1795 م - 1209 الهجري، حيث ذكر عبدالعظيم رمضان في الصفحة 41 من كتابه المذكور أعلاه أن "البعض يضعها في مقام الماجنا كارتا". وقد جمع المؤرخ الدكتور عماد الدين أبوغازي بينها وبين ثورة 23 يوليو 1952 م على أساس أن كلتا الثورتين حدثت في شهر يوليو ولكل منهما أثر كبير في تاريخ مصر الحديث.
عبدالرحمن الجبرتي أسس – في تاريخه – لثقافة المواجهة على جبهتين: جبهة الطغيان الداخلي، وجبهة الغزو الخارجي.
